إن الحمد لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
إخوة الإيمان! يا حملة التوحيد! يا أرباب المبادئ! عنوان هذه الخطبة "إلى الرفيق الأعلى".
من الذي قال هذه الكلمة؟ من هو أول من أنشأها؟ ومتى قيلت؟
القائل: هو محمد عليه الصلاة والسلام، قالها في سكرات الموت، في آخر لحظة من لحظات الحياة يوم مات كما مات الناس، وفارق الحياة كما فارقها الناس.
فهو بشر يموت كما يموت البشر، وهو في سكرات الموت شخص طرفه إلى السماء، وهو يقول: إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى، وهذه الأيام تناسب تلك الأيام التي مات فيها عليه الصلاة والسلام، فإنه مات بعد الحج.
حج بالناس فوقف محرمًا في عرفة ، حاسر الرأس، أشعث أغبر، فقال وهو يخاطب مائة ألف من المؤمنين: {يا أيها الناس! إنكم مسئولون عني غدًا، وأنا مسئول عنكم، فما أنتم قائلون لربي غدًا؟
فقالوا بصوت واحد:
نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فرفع سبابته على الناقة، وقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد} فأنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]......
العودة إلى المدينة وبداية المرض:
ولما عاد عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، أحس بدنو أجله، وبدأت وحشة الفراق وطلائع التوديع ودموع الأسى، وقف على المنبر، وقرأ قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1 - 3] فبكى أبو بكر ، فقال الناس: مالك تبكي يا أبا بكر! فقال: أجل الرسول عليه الصلاة والسلام نعي إليه، الفراق قريب.
فراق ومن فارقت غير مذممٍ وأم ومن يممت خير ميمم
وما منزل اللذات عندي بمنزلٍ إذا لم أبجل عنده وأكرم
قبل المرض:
وقام عليه الصلاة والسلام ذات ليلة وسط الليل، وقد نام الناس وهجعوا، قام وسط الليل إلى أحد حيث مقبرة الشهداء، حيث يرقد هناك حمزة ومصعب والسبعون الشهيد ينامون هناك، فوصل إليهم، وسلم عليهم، وودعهم إلى لقاء قريب في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ثم عاد ونام.
وفي اليوم التالي خرج إلى مقبرة بقيع الغرقد ، فسلم على أهل المقبرة، وقال: {ليهنكم يا أهل القبور ما أمسيتم فيه، فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مسلمًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل} ثم عاد عليه الصلاة والسلام، وفي آخر رمضان دارسه جبريل القرآن مرتين، وكان قبلها يدارسه في كل رمضان مرة واحدة.
بداية المرض:
بدأ مرضه عليه الصلاة والسلام بصداع في الرأس - بأبي هو وأمي -
فديناك يا ليل السهاد الذي سرى بجسمك في أجسامنا أبدًا يسري
ويا ليت أنَّا نحمل الضيم كله عن العلم المحبوب في البدو والحضر
عقد البخاري بابًا، فقال: (باب قول الرجل: وارأساه) هل هو من الشكوى لغير الله؟ لا، إنها من التوجع، وبث الحزن للأحباب.
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابةٍ يواسيك، أو يسليك، أو يتوجع
{دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فقالت: وارأساه يا رسول الله! كان بها صداع، فقال عليه الصلاة والسلام: بل أنا وارأساه} نزل عليه المرض ثلاثة عشر يومًا، وابتدأ عليه المرض يوم الخميس، فكان ابن عباس إذا ذكر يوم الخميس قلب الحجارة، وبكى، وقال: آه! يوم الخميس وما يوم الخميس..
كأنه مطعون؛ لأنها ذكرى حرجة، وأسىً ولوعة، وكان ابن عباس كلما ذكرها أثارت عليه الدموع والشجون والأسى واللوعة.
أثناء مرضه عليه الصلاة والسلام:
وتوطأ عليه صلى الله عليه وسلم الفراش ثلاثة عشر يومًا، وسمع الأذان مرة، فاستفاق.
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرًا كان في صدري
قال: {الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم} ثم قال: {اغسلوني} فغسلوه من آثار الحمى، وكان جسمه حارٌ، حار، حتى وضع ابن مسعود يده على جسمه فنزعها، وقال:{يا رسول الله! إن بك حمى، قال: نعم، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم.
قال ابن مسعود: ذلك بأن لك الأجر مرتين، قال: نعم، ما من مؤمن يصيبه هم ولا غم ولا نصب ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه} فغسلوه بالقربة الأولى.
فقام فأغمي عليه فسقط، والثانية حتى غسلوه بسبع قرب، فلما علم أن صلاة الجماعة سوف تفوته، قال: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، قالت عائشة: يا رسول الله! مر عمر} وأبو بكر أبوها لكنها تريد عمر لئلا يتشاءم الناس بـ أبي بكر في أول صلاة.
ويقولون: وجدناك وفقدنا ذاك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس إنكن لأنتن صويحبات يوسف} فأمروا أبا بكر فقام يصلي فتلعثم بالبكاء، وهو في الصلاة.
آخر لقاء جماهيري مع الصحابة:
واستمر به المرض عليه الصلاة والسلام، وكان آخر لقاء جماهيري مع الصحابة، هكذا يعنونون له أهل السير من المحدثين: خرج عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، وقال لـعلي بن أبي طالب ، وللفضل بن العباس ، وللعباس: احملاني إلى الناس، فاتكأ عليهما وهو منصوب الرأس بعمامته، فجلس على المنبر أمام الناس، نظروا إليه ونظر إليهم.
واشتد البكاء، وقام بجسده الشريف يتوكأ على خشب المنبر، وقال: أيها الناس: اللهم من ضربته، أو شتمته، أو لعنته، أو آذيته، فاجعلها رحمةً عندك له.
أيها الناس:
من أخذت من ماله، فليقتص من مالي، ومن ضربت جسمه، فهذا جسمي فليقتص مني اليوم قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينار، فوقف عكاشة بن محصن الأسدي أمام الناس، فقال: يا رسول الله! ما دام أنك طلبت القصاص فأريد أن أقتص منك! قال: وما ذاك؟! قال: يوم كنا يوم بدرٍ وأنت تسوي الصفوف طعنتني بعصا كانت في يدك في خاصرتي، أريد أن أقتص منك اليوم، فقام علي بن أبي طالب فقال: أنا فيَّ القصاص.
فدًا لك من يقصر عن مداكا فلا ملك إذًا إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
من هو الذي يقف أمام الناس، وهو زعيم الدنيا، فيعرض جسمه للضرب وللقصاص من الرعية، فقال عليه الصلاة والسلام: لا، بل يقتص مني، فأرسلوا للعصا التي كانت معه في بدر فأتي بها، ورفعها عكاشة في يده، وارتفع صوت البكاء في المسجد! أصحابي يضرب جسم النبي عليه الصلاة والسلام في مرض الموت؟! فألقى عكاشة العصا من يده، ثم تقدم فضم الجسم الشريف، ومرغ شيبته في الجسم الطاهر، وبكى بكاءً.
وهو يقول: جسمي لجسمك الفداء، ونزل عليه الصلاة والسلام والدموع من كل تحفه، في أحرج ساعة مرت بالأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويدخل بيته قبل الموت بيومين، ويشتد عليه المرض عليه الصلاة والسلام، ويوصي الناس بتبليغ دينه للناس: {بلغوا عني ولو آية.. نضَّر الله امرأً سمع مني مقالة، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مُبلِّغ أوعى من سامع}.......
قبل الموت بيوم واحد:
وفي اليوم الأخير أعتق عليه الصلاة والسلام مواليه، وبحث عن ماله في ميزانيته فوجد سبعة دنانير، ليس إلا هي.. عنده تسع نسوة، والأمة تحت يده، وجبال الدنيا تعرض له أن تُسير ذهبًا وفضةً، ويموت عن سبعة دنانير، فيتصدقها في سبيل الله، ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعًا من شعير كانت عند يهودي من يهود قاتلهم الله.
انظر الخسة والحقارة! {أتى عليه الصلاة والسلام إلى اليهودي، فقال: بعني شعيرًا لأهلي - سبحان الله! هذا النبي الذي عرض عليه ملك الجبال، مفاتيح الجبال أن يسيرها الله ذهبًا، فيقول: لا، أشبع يومًا، وأجوع يومًا حتى ألقى الله - ثم يأتي إلى يهودي ويستدين منه ثلاثين صاعًا من شعيرز
فيقول لليهودي: أعطني ثلاثين صاعًا، قال اليهودي: لا أعطيك إلا برهن، قال: ما عندي ما أرهنك إياه، قال: درعك الذي عليك، قال: هذا درعي} فرهنه الدرع، وما فك الدرع إلا عليٌ بعد موته عليه الصلاة والسلام.......
الميراث وتوزيع التركة:
يموت عليه الصلاة والسلام، ويبحث عن بيوته؛ فإذا هي غرفٌ لا يتجاوز طول الواحدة ثلاثة أمتار.
قال الحسن البصري: دخلت غرفته عليه الصلاة والسلام، فمددت يدي فوصلت يدي سقف الغرفة، سقفها جريد النخل.
كفاك عن كل قصرٍ شاهقٍ عمدِ بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجًا مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيم
وما هو فراشه؟ خزف النخل، فراش واحد، إذا اشتد من الشمس والسواد غسل بالماء وصلى عليه.. ووسادته أدمٌ حشوها ليف، إذا نام أثرت في جنبه الشريف.
في بيته شيء من شعير من الثلاثين صاعًا معلقة في قطعة قماش عند سقف المنزل، فأين الميراث؟! يقول عليه الصلاة والسلام: {إنا نحن معشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركناه صدقة} وزع أمواله في الناس.
أتت فاطمة إلى أبي بكرز
فقالت: أعطني ميراثي من مال أبي، قال أبو بكر: لا، يقول عليه الصلاة والسلام: {... لا نورث، ما تركناه صدقة} وصدق أبو بكر ، وبر أبو بكر ، ونصح أبو بكر ، لم يوجد شيء تمامًا خلفه عليه الصلاة والسلام إلا هذه البذلة، وسيف قاتل به في سبيل الله، فبحثوا في البيت فلم يجدوا شيئًا، وأتوا إليه عليه الصلاة والسلام وهو في آخر رمق من الحياة.
ساعة التوديع ووحشة الفراق:
وفي آخر ساعة كان في حضن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهو يذكر الله، وكانت ترقيه عليه الصلاة والسلام بيديه؛ لأنها أشرف وأبرك، فكانت تأخذ يديه وتنفث، وتقرأ المعوذات، وتمسح جسمه، وكانت يديه من شدة المرض مسفودتان منهوكتان.
دخل أخوها عبد الرحمن وفي فمه سواك من أراك، فأبدَّه صلى الله عليه وسلم نظره، وكأن عينيه تتحدثان تطلبان السواك، فعرفت عائشة ، ودعت بالسواك فقضمته وسلمته إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فاستاك بيده كأشد ما يستاك في الحياة الدنيا.
ثم رد السواك، أخذت تقول: عافاك الله، شافاك الله، أزال الله ضرك، فنزع يده مغضبًا من يدها، وهو يقول: {بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} أي: لا أريد الحياة، أريد أن أموت اليوم.
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حب
وعكسه الكاره فالله اسألِ رحمته فضلًا ولا تتكلِ
ثم يتمتم عليه الصلاة والسلام ويقول: {مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، ثم قال: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ثم رفع طرفه، وقال: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد}.
سكرات الموت والانتقال:
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالًا ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
وصل عليه الصلاة والسلام إلى لحظة سوف نصل إليها جميعًا، ولا يبرأ منها أحد، وصل إلى درجة أن يموت كما يموت الناس، فأخذ خميصة كانت أمامه، أي: قطعة قماش - وبلها بالماء، وغطى بها وجهه الشريف، وهو يقول: {لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، لا إله إلا الله، اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت، لا إله الله إلا الله، اللهم خفف عليَّ سكرات الموت} ثم مات.
قال تعالى:إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] مات، فأين ميراثه؟ وأين تركته؟
أنا وأنت، وأبي وأبيك من تركته! المساجد ملايين المساجد في العالم.. ملايين العلماء.. ملايين الشهداء.. ملايين الصالحين كلهم من تركته! الوحي، المسيرة، الجيل، الشعوب الإسلامية، النور، كلهم من تركته! خلف رسالة طوقت ثلاثة أرباع الكرة الأرضية!
لا يعلم في تاريخ الإنسان، ولا في حياة الشعوب مؤثرًا أعظم منه عليه الصلاة والسلام!! ومع ذلك هذه تركته، كأفقر فقراء هذا العصر، بل لا يوجد في هذا العصر - في علمي - في بعض البلاد أكثر فقرًا مما كان عليه صلى الله عليه وسلم! لم يشبع ثلاث ليال متوالية من خبز الشعير، فأين ميراثه؟! الرسالة الخالدة، قال عليه الصلاة والسلام: {إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر}.
أسأل الله أن يجمعنا به في دار الكرامة، وأن يلهمنا اتباع سنته، وأن يجعلنا سائرين على منهجه، وأن يعصمنا بشريعته.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.......
مصيبة موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أيها الناس: يموت البشر من الزعماء والقادة والرؤساء، فتقوم الدنيا وتقعد من أجل موتهم، إما مجاملة، وإما استخذاءً، وإما جهالةً بحالهم، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كالناس، مات.. فكادت قلوب الصحابة تتفطر، وجعلوا أعظم المصائب مصيبة موته عليه الصلاة والسلام، وقال قائلهم:
وإذا أتتك من الأمور بليةٌ فاذكر مصابك بالنبي محمد
فأعظم مصيبة مرت بالعالم الإسلامي موته عليه الصلاة والسلام، فما وَقْع الخبر على الصحابة؟
كيف تلقوا نبأ موته صلى الله عليه وسلم؟
بينما هو الذي يسكن في قلوبهم، ويعيش في ضمائرهم، وينام في أجفانهم، وإذا به يموت.
بينما يخطب بهم يوم الجمعة، ويصلي بهم، ويعلمهم، ويهديهم، ويرشدهم، ويوجههم، وإذا هو يموت.
بينما هو يقف مع الطفل، ويحمل متاع العجوز، وتوقفه المرأة في حرارة الشمس، ويقضي حاجة الفقير.. فإذا هو يموت..
بينما هو يطعمهم قبل أن يطعم، ويسقيهم قبل أن يشرب، ويسهر ليناموا، ويتعب ليرتاحوا، إذا هو يموت، فكيف الخبر؟
ما هو وقْعُه? وما مدى تأثيره؟......
أثر خبر موته عليه الصلاة والسلام على الصحابة
اسمع! سمع الصحابة الخبر، فاجتمعوا جميعًا حول المسجد، فاختلطت أصوات النساء بالرجال وبالأطفال من البكاء، فأصبح زعماء المعارك، وقادة ميادين المعركة، وحملة الألوية؛ يخورون كما تخور الأطفال، خالد وسعد وطلحة والزبير ، الذي كل إنسان منهم تاريخ.. انهد تمامًا!
وقف عمر ، فما استطاع أن يقف على قدميه وسقط بين الرجال. اجتمعوا حول المسجد، كأنهم غمامةٌ تدور، وفي بكاء رهيب يتسلون بالصبر.
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغلٍ عن السفر السفر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دمًا ضحكت عنه الأحاديث والذكر
قام عمر ،وأبو بكر كان غائبًا لم يدر بالخبر إلى الآن أبو بكر في مزرعته في عوالي المدينة كان عنده مزرعة نخل يغرس هناك بمسحاته، وهو الصديق الأكبر لم يدر بالخبر! قام عمر على المنبر، فسل سيفه، وبيته صلى الله عليه وسلم مغلق على الجثمان الشريف، فقال: يا معشر الناس! من زعم منكم أن محمدًا قد مات ذبحته بهذا السيف.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يمت، وإنما رفع إلى السماء كما رفع بعيسى، وسوف يمكث أربعين ليلة، ثم يأتي، هذا رأي عمر.
وهذه وجهة نظره في الحادث، ثم نزل عمر مع الناس يجول بسيفه، ليستمع من الذي يقول: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، فيذبحه كما يذبح الشاة، وسار الخبر إلى أبي بكر الصديق ، فركب فرسه، قالوا: مات الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: الله المستعان، وكان رجلًا رشيدًا عاقلًا فصيحًا حكيمًا، ولذلك اختاره عليه الصلاة والسلام ليكون رجل الساعة - ساعة الصفر ليكون الخليفة بعده - فأتى وإذا بسكك المدينة مطمورة بالأوادم.
وإذا الأطفال والنساء يموجون كالغمام حول المسجد؛ فسكت الناس بعصاه، ولم يتكلم بكلمة، وأخذ يستغفر ويسبح في ثبات، وشق الصفوف على فرسه، ثم نزل وهبط من على الفرس، ودخل البيت ففتحه، وأتى إلى الجثمان الشريف.. إلى الوجه الطاهر.. إلى البدن العامر؛ فكشف الغطاء عن وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم بكى، وقال: [[ما أطيبك حيًا، وما أطيبك ميتًا، أما الموتة التي قد كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبدًا]].
ثم قبله ودموعه تخر من على لحيته إلى جبين محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يمسح الدموع، يمسح الدموع بيده ويقبل مكان الدموع، ثم يخرج إلى الناس، وعمر يتكلم وهو هائجٌ كالأسد، قال: اسكت يا عمر! اسكت يا عمر! اسكت يا عمر !
فدلف أبو بكر بعصاه، وتوكأ عليها، وقال: [[أيها الناس: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت]] فسقط عمر من على المنبر على وجهه، علم أنه مات! وأتوا بالماء فرشوا عمر على رأسه، فقام ودموعه تنهار على لحيته.
ثم أخذ أبو بكر يتحدث، ويقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] .
ثم دعا بعد ذلك، وذهب بهدوء، وسكت الناس، ورجعت لهم السكينة، وهدأت الضمائر، وأخبرهم أبو بكر أن هناك ربًا فوق سبع سماوات لم يمت، وأنه حيٌ قيومٌ، وأنه هو الذي يعُبد، أما الناس فيموتون ويولدون، ويغنون ويفتقرون، ويذهبون ويأتون، ومحمد عليه الصلاة والسلام من هذا البشر الذي كتب الله عليه الموت.
غسله والصلاة عليه ودفنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قال الصحابة: يا أبا بكر! نختار للرسول عليه الصلاة والسلام قبرًا في ناحية من نواحي المدينة ، قال أبو بكر: لا. سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض} فادفنوه مكانه، فكشفوا الفراش الرخيص، الفراش المتقشف.
رفعوا الفراش وحفروا الأرض، وكان الحافر أبو طلحة ، ألحد لحدًا، فلما عمقوا اللحد سمعت أصوات المساح، وبكاء النساء وراء الحجب، ثم أتوا لتغسيل الجثمان الشريف، فقال النفر منهم علي والعباس: لا ندري هل نجرد الرسول عليه الصلاة والسلام من ثيابه، أو نغسله من فوق الثياب، فألقى الله عليهم النوم فناموا قليلًا وكانوا ستة أو سبعة، فسمعوا قائلًا يقول: اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق ثيابه، فأخذوا يغسلونه ويرشونه بالماء من فوق ثيابه.
وعند البيهقي أنه عليه الصلاة والسلام قال وهو في مرض موته: {إذا مت وغسلتموني وكفنتموني فضعوني على شفير القبر ساعة، فانتظروا ساعة، فإن ربي سوف يصلي علي} أي: إذا وضع على شفير القبر، وعلى طرف القبر، فلا يصلون عليه؛ بل ينتظرون ساعة، فإن الرحمن الرحيم الذي على العرش استوى سوف يصلي عليه.
أي عظمة! وأي تاريخ! وأي عطاء: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] هل فوق أن يصلي عليه - عليه الصلاة والسلام - ربه عطاء ? قال: {فإذا انتظرتم ساعة، فانتظروا ساعة أخرى، فإن ملائكة ربي سوف تصلي عليَّ، فإذا انتظرتم هذه الساعة، فصلوا علي زرافات ووحدانا، وليصلِّ عليَّ أحدكم في أي مكان.
فإن صلاتكم سوف تبلغني، قالوا: يا رسول الله! كيف تبلغك صلاتنا وقد أرمت؟ - أي: بليت - قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} فلما وضعوه على شفير القبر بعد أن كفنوه، وأخذت روائح الطيب تعج وتضج في المدينة من جسمه الشريف، وقفوا ساعة، ثم وقفوا أخرى، ثم تقدموا يصلون بلا إمام على الصحيح من أقوال أهل العلم، أبو بكر معه فرقة، وعمر معه أناس، والنساء والأطفال والأعراب.
قال الشوكاني: " صلّى عليه صلى الله عليه وسلم ما يقارب واحدًا وثلاثين ألفًا، ودفن عليه الصلاة والسلام ".
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
ماذا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
وذهب ولكنه ما ذهب! أين يذهب وهو يعيش في أبصارنا وأسماعنا، وقلوبنا، وضمائرنا؟!
أين يذهب! وقد ترك لنا الحرمين والكتابين والقبلتين والبيعتين والعقبتين؟!
أين يذهب، ونحن نصلي فنتذكر قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي}؟!
أين يذهب، ونحن نحج فنسمع قوله معنا في كل مكان: {خذوا عني مناسككم}؟!
أين يذهب، وهو يعيش معنا في تقليم الأظافر بسنته، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، في تقصير الثوب، والخلق، والتعامل، والصدق، والأمانة، والوضوح، والبر، والعطاء، والعفاف، والزهد، والورع... فأين يذهب?
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
قال الله عَزَّ وَجَلَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].......
حقوقه علينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حقوقه علينا أربعة:
أولًا: أن نكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أن نعمل بسنته في كل جزئية من جزئيات الحياة، قال عَزَّ وَجَلَ: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65].
ثالثًا: أن ننشر دعوته للناس، فنتكلم بها في كل مجلس، وفي كل منتدى.
رابعًا: أن نحبه حبًا يملك علينا أشواقنا ودموعنا وهمومنا، ويزيل عنا غمومنا، أشد حبًا من حب الأقزام للأقزام، والعبيد للأصنام، والعبيد للسادة، أشد مما يحبه الثوريون الخونة لساداتهم الخونة.. والوطنيون الضائعون لساداتهم الضائعين، شباب الثورة العقيمة، والطليعة الوخيمة، والبعث السقيم، والعلمانية الفاشلة.
وأن نحب ذاك أعظم من حب هؤلاء لزعمائهم، زعماء الدمار والعار، والذبح والاستعباد والاستخذا، والهلاك والتبجح، أما ذاك فحقه علينا أن يسري حبه في الدم، في كل ذرة.
طه إذا ثار إنشادي فإن أبيحسان أخباره في الشعر أخباري
يا صاحب المثل العليا وهل حملت روح الرسالات إلا روح مختار
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الأبرار، واجمعنا بهم في دار الكرامة، اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه.
اللهم اهدنا سبلنا، ووفقنا لكل خير، اللهم ولي علينا خيارنا!
اللهم تقبل منا حجنا وعمرتنا وأعمالنا، وكفر عنا سيئاتنا، اللهم ألحقنا برسولنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، اللهم بلغنا شفاعته، وثبتنا على رسالته، واسقنا من حوضه شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا، وأرنا وجهه، وأجلسنا بجانبه، وبلِّغنا منازلنا في عليين يا رب العالمين!
اللهم رد شباب الإسلام إليك ردًا جميلًا! اللهم اجعلهم حملةً للرسالة، حفاظًا للعقيدة، أمناء على المبادئ.
اللهم بلغهم ما يريدون من الخير والبر والتقوى، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع نواحي